من المعروف أنّ دولة العراق تُجيز مساحةً كبيرةً لاستخدام آلة السّنطور في تقاليدها الموسيقيّة، لا سيّما في “المقام العراقيّ “، إذ تجد السّنطور آلة أساسيّة في “الجالغي ” البغداديّ، يَعزف ضمن هذه المجموعة من الآلات الموسيقيّة ومعها، و”يُقَسِّم ” بطريقةٍ فرديّةٍ، كما ويُرافق الغناء الجَماعيّ، وكذلك الأداء الفَرديَّ لِـقُـرَّاء المقام. وقد يكون العراق، البلد العربيَّ الوحيد الّذي أتاح هذه الخاصيّة ، الّتي ظهرت بقوّة في مؤتمر القاهرة سنة 1932 ، حينما شارك الوفد الموسيقيّ العراقيّ بقيادة وإدارة كلّ من قارئ المقام محمّد القبّانجيّ وعازف العود الفذّ عزّوري العوّاد، بالإضافة إلى السّنطورجي المميّز حُوكي بَـتَوّ كما يوسف بَـتَوّ، وقام الوفد بالتّسجيل تاركًا بصمةً موسيقيّةً حقيقيّةً راقيةً وتقدّميّة ورفيعة المستوى.
هكذا نرى كيف عكست لنا تلك التّسجيلات في مطلع القرن الماضي، نموًّا مضطردًا لآلة السّنطور في المشرق العربيّ انطلاقًا من دولة العراق – وذلك بالتّماشي مع كلّ النّهضة الموسيقيّة في البقاع العربيّة الّتي تمركزت في مصر في عهد الخديوي اسماعيل – إلّا أنّ انتشار هذه الآلة، كما مستوى العزف عليها، كما صناعتها بدأت كلّها في التّقهقر رويدًا فرويدًا مع مرور الزّمن؛ فلم تعد المصادر المعنيّة بالنّشر الموسيقيّ تسجّل أسماءً كثيرة و\أو لامعة في العزف على هذه الآلة في البقاع العربيّة عمومًا وفي العراق خصوصًا، بل نجد سلسلة أسماء محدّدة لأساتذة كبار، غيّورين على الحفاظ على تقاليدهم الموسيقيّة، فتمثَّـلت أهدافهم العليا في المحافظة على أكبر رصيد من المقام العراقيّ ، كمًّا ونوعًا، أي المحافظة على مستوى هذه الآلة، عزفًا وحتّى صناعة؛ وهذا في حدّ ذاته غير كافٍ.
وكما هو معلوم، فإنّ الاهتمام بهذا التّقليد الموسيقيّ تقهقر وتراجع أمام الحداثة الموسيقيّة مع مرور الزّمن، رافقه إيقاع متوازٍ على خطّ استخدام آلة السّنطور نفسها، إلى أن وصلنا إلى مطلع الألفيّة الثّالثة وقد يمكن القول أنّ وجود هذه الآلة في أذهان ومسامع النّاس بات شيئًا ضعيفًأ.
من هنا، قد تخطر في البال سلسلة أسئلة مفادها:
لماذا لم يُستخدم السّنطور عربيًّا خارج إطار المقام العراقيّ، بدءًا من مطلع القرن العشرين وبعده؟ لِمَ لَمْ يتعدّ استخدام السّنطور إلى التّقاليد الموسيقيّة العربيّة الفنّيّة الأخرى الّتي كانت سائدة بقوّة في حينه، خصوصًا موسيقى النّهضة الخاصّة بمدرسة عبده الحمولي (1843-1901) ومحمّد عثمان (1855-1900) وغيرهما؟ ولماذا لم يستمر السّنطور مع الأنماط الموسيقيّة “الحديثة” الّتي بدأت تسود فيما بعد؟ أسوة بآلات كثيرة أصيلة أخرى كالقانون أو العود مثلًا؟ تلك الآلات الّتي شابها تغيير (وعلى مراحل) على كلّ الأصعد تقريبًا، من شكل وصناعة ورنين وتقنية وأسلوب وما شاكل… إذ يمكن اليوم الحديث عن نفس الآلة في صيغتين: الأوّل أصلٌ أصيل، والآخر منحدرٌ حديث .
كلّ هذه التّساؤلات، وغيرها، تقود إلى وجوب دراسة أرغنولوجيّة لآلة السّنطور في بعديها التّاريخيّ والنّظاميّ (organologie historique et systématique)، في كلّ من التّقليد الموسيقيّ العراقيّ من جهة، بالإضافة إلى تقليد موسيقيّ آخر قريب هو “الرّديف الفارسيّ” من جهة ثانية، فتسمح القيام بمقارنة بين السّنطورين وبالتّالي استنتاج علميّ للعلاقة بين الخواص التّكوينيّة الموسيقيّة للآلة وبين المتطلّبات الموسيقيّة المرجوّة في تقليد موسيقيّ معيّن.
وتعرض هذه الورقة البحثيّة، بعد المقارنة والاستخلاص، سلسلة خصائص موسيقيّة منتقصة عند السّنطور التّقليديّ (لا سيّما العراقيّ) تمنعه من مجاراة العزف بسهولة وراحة وحريّة لموسيقى النّهضة، مثال:
1) التّلوين المقاميّ غزير في موسيقى النّهضة يقابله محدوديّة النّغمات الثّابتة في دوازن السّنطور (السّنطور العراقيّ لديه هامش من التّلوين مُتجسّد في عُربه الموجودة في إحدى صفّيه من الدّامات، إنّما الإيرانيّ كثير الثّبات )؛
2) اعتماد قويّ على مفهوم “القفلة ” في موسيقى النّهضة في كلّ المقامات وعلى مختلف الطّبقات، يقابله عدد قليل من الدّامات العاموديّة في السّنطور (العراقيّ 11 أو 12 دامة، الإيرانيّ 9 دامات) تمنع القيام بقفلات مريحة؛
3) استناد دائم إلى قرار كلّ نغمة أثناء التّقسيم لإظهار “النّبض ” في موسيقى النّهضة، يقابله فقدان شبه تام لتلك القرارات في السّنطور العراقيّ، مع وجود عدد محدّد من نغمات القرار عند السّنطور الإيرانيّ في صفّ الدّامات الأيمن؛
4) تطلُبُ مدرسة النّهضة تأثيرات وجماليّات موسيقيّة دقيقة، كالعفق والزّحلقة والإسكات وما إلى هنالك… لكنّ كِلا السّنطورين اللّذين تمّت دراستهما لا يسمحان باقتراب اليد إلى الأوتار لملامستها وللقيام بإحداث شيء من تلك التّأثيرات (أسوة بالقانون مثلًا سواء أكان بعربٍ أو بدونها)، بل فقط الارتكاز على تقنية ضرب الأوتار بمضرابين من خشب.
هذه الاستنتاجات، دفعت بنا كباحثين إلى التّفكير جدّيًّا بإيجاد سنطور يستطيع السّيطرة على هذه الإشكاليّات المطروحة أعلاه، فتعود الآلة وتستعيد قدرتها على مجاراة أنماط موسيقيّة أخرى سائدة. وبسلسلة أبحاث مطوّلة منذ عام 2002 إلى حينه، تمّ التّمكّن من إيجاد صيغة جديدة من السّنطور، هو “السّنطور المشرقيّ “، الّذي يعتمد بقوّة على السّنطور العراقيّ من جهة أولى، مزاوجًا له سلسلة خصائص ضروريّة من السّنطور الإيرانيّ من جهة ثانية، والّذي أسقطت عليه احتياجات من موسيقى النّهضة من جهة ثالثة .
في الختام، يتوقّع أن تكون صيغة السّنطور الجديدة قد وضعته في منزلة أقوى، لتسمح له بمزاولة موسيقات مختلفة متعدّدة، وعلى رأسها موسيقى النّهضة، وبصيغة وحلّة معاصرتين نعيشهما اليوم في حياتنا. ومع مواكبة التّصنيع لحاجات العازفين لهذه الآلة، يعوّل الأمل أن يكون لها دورًا أكبر في المستقبل الموسيقيّ العربيّ لتقاليد عديدة في المشرق وحتّى أخرى في المغرب، كما لموسيقات أخرى هي في متناول المجتمع اليوم.

La diversité organologique du sanṭūr

YASSINE, Hayaf, 2017, « La diversité organologique du sanṭūr en tant qu’expression de la différenciation des grammaires musicales traditionnelles iraqienne et iranienne » [Organological diversity of the sanṭūr as an expression of differentiation between iraqi and iranian traditional musical grammars], Revue des traditions musicales des mondes arabe et méditerranéen, n° 11 « Perception et apprentissage des traditions musicales », Baabda (Liban) et Paris, Éditions de l’Université Antonine et Éditions Geuthner, p. 147-166.

Résumé
Cet article propose une analyse comparative de la facture du sanṭūr (cithare à cordes frappées), de la disposition de ses cordes et de son accordage, entre la tradition du maqām ‘irāqī et celle du radif iranien. Chemin faisant, sont mises en corrélation les différences observées à ce titre avec un certain nombre de disparités inhérentes à la grammaire et au style musicaux, que l’on observe entre ces deux traditions. Il s’agit surtout de l’usage différentiel des processus d’altération des hauteurs, d’octaviation et de cadence, qui a pour conséquence une tendance à une verticalisation du jeu instrumental dans le sanṭūr iraqien et à une horizontalisation de ce jeu dans le sanṭūr iranien. Ces considérations sont mises à profit dans l’élaboration de deux variantes inédites de cet instrument, la première étant destinée à l’interprétation de la tradition musicale arabe du Mašriq non iraqien, la seconde étant vouée à soutenir l’initiation des enfants à cette tradition, dans le cadre de l’enseignement scolaire de base.
Mots-clés : Sanṭūr iraqien. Sanṭūr iranien. Maqām ‘irāqī. Radif iranien. Organologie.
Abstract
This article proposes a comparative analysis of sanṭūr’s organology, the arrangement of its strings and its tuning, between the tradition of maqām ‘Irāqī and that of the Iranian radif. Along the way, the differences observed in this respect are correlated with some differences inherent in musical grammar and style, which are observed between these two traditions. It is mainly the differential use of the processes of alteration of pitches, octaviation and cadence, which results in a tendency towards a vertical style of playing the Iraqi sanṭūr and a vertical style of playing the Iraqi sanṭūr. These considerations lead to the development of two new variants of this instrument, the first being intended for the interpretation of the Arabic musical tradition of non-Iraqi Mašriq, the second being dedicated to the initiation of children into this tradition. as part of basic school education.
Keywords: Iraqi Sanṭūr. Iranian Sanṭūr. Maqām ‘Irāqī. Iranian Radif. Organology.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *